عانت الدولة السودانية منذ بدء عملية تكوينها الأولي من حالة مزمنة من الإجهاد السياسي ، تسبب به الأمراض التى رافقت عملية التكوين ، وأدت بالتالي إلى خلل مزمن فى بنية الدولة ( سياسيا وإجتماعيا ) سيؤدي لاحقا إلى إهترائها وخلخلة بنيانها– كنتيجة حتمية .
فإذا كان المجتمع كائن عضوي يؤثر ويتاثر فقد كان من الطبيعي أن تنتقل كل الأمراض المجتمعية إلى بنية الدولة ، وتؤثر على مزاج صناع القرار ، الذين سيقحمون بالتالى كل هذه العلل فى مجال السياسة والحكم .
وسيرتد هذا الأمر بالطبع بصورة عنيفة ليؤثر فى المجتمع والناس - كما نشهد الان .
وهذه العلل والأمراض كثيرة – أولها العنصرية والأصطفاء العرقي والعقيدي ، التى تمظهرت بصورة بينة وجلية فى أثر سياسات المستعمر على الأرض والناس .
يعتبر دخول الإستعمار إلى السودان – الذى بدأ بدخول العنصر العربي كعرق و الدين الإسلامي كعقيدة – كارثة ووبالا على العناصر العرقية السودانية الأصلية وعلى أديانها ومعتقداتها .
هنا .. لعلعت صافرة البداية لتعلن إنفلات عقال حصان سياسات التهميش والإقصاء الجهوي والإصطفاء العرقي – الذى تشكل حاليا كأزمة وطنية : حروبا عرقية وجهوية ودينية على الأرض . وشحن سلبي كهرب العلاقات الإجتماعية بين المواطنين وشوهها بمشاعر النفور والإزدراء والكراهية بين التكوينات العرقية التى تستظل تحت سماء الرقعة الجغرافية التى تسمى بالسودان ..
هذا الشحن السلبي دعمته الدولة بوسائل إعلامها التى تروج لثقافات ومعتقدات بعينها – بإعتبار إنها الثقافة المثلي التى تمثل الوجدان الوطني .
الأمر الذى زكى الشحن السلبي المتبادل وعمق المشاعر السلبية بين مكونات الأمة السودانية
وبرز هذا الصراع من الخفاء إلى العلن ، ومن التقية إلى الجهر به .
وهو ما دأب المثقفون على توصيفه وتشريحه تحت عنوان : جدلية المركز والهامش .
وأسميه : بالمسألة السودانية .
................
والجدير بالتأمل : إنتقال إمراض وعلل الدولة إلى الكيانات والتنظيمات السياسية ، التى من المفترض أنها تمثل وعاء يستوعب التعقيدات الثقافية ، ووالتى تزعم إنها تقدم مشاريعا لإستعياب المكونات المختلفة للمواطنين ، وتقدم حلولا وعلاجا العلل المجتمعية لا مزكيا وداعما لها .
فالتنظيمات الكبري أيضا تتجاهل عن عمد غالبية السكان (60% عنصر أفريقي ) ، وتنظر إليهم كمكون ثانوي- عرقيا وثقافيا ـ ومن الملاحظ أن العلاقة بينها وبينهم يشوبها الإستغفال المتعمد والتعالي الفكرى الصفوي . فهى تسعى سعيا حثيثا إلى حشدهم داخل تكويناتها ، ولكن شرط أن يكون وجودهم ككومبارس أو جوقة من المهللين ، ومجرد إكسسوار للزينة الحزبية لتدعم به إدعاءاتها القومية .
ولكن فى أول محك حقيقي لا يلبث هذا القناع إلا قليلا وينكشف ، مبديا عن وجهه العنصري التقليدي بكل قبح وقماءة.
...........................
منذ بداياتها روجت الحركة الإسلامية السودانية لمشروعها بين أهل الهوامش بإعتبارها بديلا حسنا عن التتنظيمات الطائفية التى مارست إستغلالا وإستغفالا ممنهجين لأهل الهوامش والإطراف .
ولكنها بطبيعة الحال لم تكن بديلا حقيقيا ، لأنها أيضا فى سعيها لحشد المهمشين حول برامجها - مارست أيضا مغازلة الوجدان الديني ونشر التجهيل المتعمد وغسيل الدماغ – نفس الإساليب الممارسة من قبل التنظيمات الطائفية والعقائدية .
ثم ساقت هؤلاء المغرر بهم وقدمتهم قرابينا على مذبح حروبها العقائدية وخلافاتها السياسية.
..........................
هل إستيقظ مهمشو السودان المنتمين للحركة الإسلامية ؟
البداية كانت مع كادر الجبهة الإسلامية القوى( داؤود يحيى بولاد ) الذى إستيقظ على حقيقة مرة وقاسية ( إن العرق أقوى من الدين ) الأمر الذى جعله يعلن تمرده على نظام الإنقاذ الذى جاء ليمكن ويعيد صياغة ( دولة الجلابة) على أسس أقوى وبنيان اكثر رسوخا .
كان ( من المفترض ) أن يكون لتمرد بولاد – كفاحه ضد دولة المركز ( المتمثلة هذه المرة فى حكومة الإنقاذ الوطنى ) – الأمر الذى ترتب عليه إعدامه بصورة بشعة وإنتقامية ، أن يكون بمثابة جرس إنذار و ( لمبة حمراء ) لبقية كوادر الجبهة السلامية الفاعلين المنتمين إلى الهوامش .
وكان من الطبيعي أن يتبع هذه الصحوة صحوات ..
...........................
خليل بعد التعديل :
كما سبق أن ذكرت ، كان من المفترض أن يكون لتمرد بولاد - ومن ثم إعدامه ، أثرا داويا بين أهل الهوامش المنتظمين فى التيار الإسلامي الراديكالي ، ولكن للأسف تأخرت الصحوة الحقيقية حتى السنوات الأخيرة ، بعد أن كلف المشروع الإسلامى الهامش خسائرا فادحة فى الأرواح والممتلكات .
هذا المشروع الذى إستهدف الهامش بكل وضوح ..منذ طلقة بدايته الأولى ..
فأعلن الجهاد على نصف الوطن .
وإنطلقت مركبات الموت العقائدية لتعيث خرابا فى الجنوب ..ولتحشد الجموع المستغفلة حول مشروعها الإبليسي لتصفية الديانة المسيحية ومعتنقيها .
ولم تكن هذه الحرب المجنونة ..إلا مجرد تمظهرا آخرا من تمظهرات الدولة السودانية ذات الطابع العنصري منذ تكوينها ..
...........................
وقد أجاد نظام الإنقاذ إستعمال أدواته الإعلامية فى حشد تعاطف المواطنين غير المنتمين لهذه الحرب عبر الإعلام الموجه - أو الإعلام التعبوي .
مغازلا فى ذلك الوجدان الديني تارة - وتارة مستخدما إبر الوخز الجهوية والعرقية ..
وقد نجح فى ذلك إلى مدى بعيد .
وكان للبرنامج التلفزيوني الملعون ( ساحات الفداء ) القدح المعلى فى تجييش مشاعر المواطنين واللعب على أوتار حسهم الدينى .
وإنطلق عقال مشاعر الكراهية لآخر مداه ...وأفرخت العنصرية وباضت بكل إرتياح فى هذا الجو الملغوم ..ولكأن المنطق والعقلانية منحا إجازة مفتوحة ..
فى هذا المشهد السريالي الذى تمدد ليملأ كل الشاشات ..أثيرية كانت محصورة فى صندوق أم واقعية متشكلة على الأرض .
...................................
وإنطلقت مواكب أعراس الشهداء فى الحضر والبادية - القرى والنجوع والأحياء السكنية ..لتزين هذا المشهد العبثى ، وتلعلع زغاريد الموت لتزف خيرة شباب الوطن إلى فوهة العتمة .
قرابينا لوحش الكراهية ...الذى لا يلذ له إلا إلتهام (الفطائس ) ..
...........................
يأبى المشهد العبثي إلا أن يتمادى فى عبثيته ..
فتستبد بالأخوة شهوة الحكم ، فيصطرع الشريكان ، ويتشبث من أرسل إلى القصر بقصره ..ويرسل من حاك الأمر إلى معتقله.
وتنشق الحركة ..كنبوءة الشيخ الشهيد .
ومن خلف المشهد ..تبرز من فوهة العتمة يد معروقة مضرجة بالدماء ...وصوت يصرخ بعلو ما بقى له من أمل :
شهيد انا أم فطيس
شهيد أنا ام فطيس
ولا مجيب ..
.........................
وداست سنابك هذا الصراع السلطوي النموذجي على ما تبقى من أمل لأهل الهوامش المنخرطين داخل التيار الإسلاموي ، فى كل ما وعدهم به تنظيمهم من عدالة ومساواة ..
فأفاق ( الخليل ) من نومة عميقة طويلة ..كما الغيبوبة رافقته منذ دخوله إلى الخلوة غرا يافعا ناشئا فى رحاب العقيدة مستظلا بظلها ..الذى إستحال إلى ظل ذى شعب ، لا يقى المستظل به من سعير العنصرية ولا يقيه من لهيب الكراهية ..
أفاق على الحقيقة المرة التى تبدت لأخوه ( بولاد ) من قبل ( العرق أقوى من الدين ) فى هذه الرقعة الملعونة ..المسماة على لون جلود الأسلاف .
.............................
سؤال موجه (لهم ) : هل تظنون إن إغتيال الخليل سيكتب الخاتمة لهذه الملهاة الوطنية ؟
مرحبا بالوهم الفادح والعريض ..
ليتمدد تمدد السراب على أفق الوطن الشاسع
مرحبا بضياع آمال حسم المعركة ..
فالمعركة الأزلية مكتوبة على جبين الوطن
حتى قبل أن يتشكل ..
نبت الكراهية لن يثمر إلا حصرما ..
وشجرة العنصرية لن تطرح إلا علقما ..
فليبتهج المبتهجون ..
وليزغرد المزغردون ..
وليتمايل الراقصون
على أنغام بائسة كبؤس معانى الأهزوجات
ولتنحر الذبائح إبتهاجا ..
بالخديعة
ولتراق الدماء على الأرض تبركا
ولتلحس السكاكين المضرجة بالسائل الأحمر
عله يبعث نشوة فى مفاصل
إبليس العجوز ..
..............................
رحم الله خليلا ..
وللموتِ كأسٌ تكرهُ النفسُ شُرْبَها، ولا بُدّ يوماً أن نكون لها شَربا
من السّعدِ، في دُنياك، أن يهلك الفتى بهيجاءَ، يغشى أهلُها الطعنَ والضّربا
فإنّ قبيحاً، بالمسوَّدِ، ضِجعَةٌ على فَرْشِه، يشكو إلى النفَر الكَربا
ولي شرَقٌ بالحتفِ، ما هو مُغَربٌ، أيمّمتُ شرقاً، في المسالكِ، أم غربا
تَقنّصَ، في الإيوانِ، أملاكَ فارسٍ، وكم جازَ بحراً، دون قيصر، أو دربا
( المعري )
.
,
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق