الصفحات

الخميس، 20 يوليو 2017

عزة ، العازة ، العزى ، إيزا ، إيزيس



من هي عزة ؟ 
ولماذا يتغنى بها ولها السودانيون في أكثر من أغنية ونشيد وقصيد ..ويلهجون بذكرها ؟

( عزة في هواك )
( يا عازة الفراق بي طال )
(عزة قومي كفاك نومك )..إلى آخره من قصائد ومغنيات أخرى ..قديمة وجديدة !!

هل* عزة المعنية هي حقا : عزة محمد عبد الله ..قرينة البطل علي عبد اللطيف وأول امراة تمارس النشاط السياسي ضد المستعمر البريطاني ؟
أم الأمر أقدم من ذلك ..وأكبر !
وهل للأمر بعد تاريخي كما أزعم وأعتقد ؟

فلو تناولنا الأمر في فذلكة تاريخية لنعرف مصدر الإسم الشائع عزة ، فسنجد أن للإسم مصدرين تاريخيين قديمين جدا :
* إيزا أو إيزيس : وهي أشهر ( نتريت ) في وادي النيل ..والأكثر تقديسا بين النترو لدى شعوب وادي النيل . بل إن أهلنا البجا كانوا يقدسونها إلى عهد قريب ، وقد خاضوا حروبا مريرة مع الرومان لإستعادة حق الحج إلى معبدها القابع في جزيرة ( فيلة ) في (ألفنتين) أسوان الحالية .
كذلك كانت هي النتريت المفضلة لدى كل الكوشيين ( السودانيون قديما) والكمتيين ( شعب مصر القديم ) ، وإنتقل تقديسها إلى كثير من بقاع أفريقيا وآسيا وأوروبا ،* وقصتها مع عائلتها من النترو ( أوزير - أوزوريس ، و حر -حورس ، وست ، ونفتس ) تعد من أقدم الملاحم في تاريخ وادي النيل ..بل في تاريخ العالم أجمع .
والبعض يشبهها بقصة بني آدم هابيل وقابيل ..

* والنترو : في تاريخ وادي النيل هم كائنات بشرية خارقة تقوم بمهام إلهية عبر تحكمهم في قوى الطبيعة . 
والكلمة إنتقلت إلى اللاتينية لاحقا لتعبر عن معنى الطبيعة . وذلك في إنتقال تكرر كثيرا لثقافة وادي النيل إلى الحضارات الإغريقية والرومانية ، نسبة لحالة الإنبهار التي سادت العالم القديم بإرث وادي النيل الثقافي .الأمر الذي عبر عنه مارتن برنال في سفره القيم ( أثينا السوداء  Black Athena: The Afroasiatic Roots of Classical Civilization) .

* أما المصدر التاريخي الآخر للإسم فهو إلهة العرب القديمة في الجزيرة العربية ( العزى ) ..
وهي إلهة قديمة كونت مع رفيقاتها من المعبودات (اللات ومناة) ثالوثا أنثويا عبده أهل مكة ( قريش ومن والاهم ) .
والسؤال : من أين جاء القرشيون بمعبودتهم العزى ؟
وهل هي نفسها إيزا أو إيزيس ؟
الأمر غير مستبعد ..خاصة لمن يعلم الوشائج التاريخية والإثنية والثقافية التي تربط الجزيرة العربية( خاصة جنوبها وغربها) بأفريقيا ( خاصة شرقها وشمالها ) .
ولقد تناول هذه العلاقة ..بصورة عكسية في نظري وفي نظر كثير من متخصصي التاريخ ..دكتور على فهمي خشيم في سفره القيم المعنون ب( آلهة مصر العربية ) ..!
.....
المهم ، أيا تكن العلاقة وأيا يكن المصدر ..فلا شك أن الإسم يعود لإمراة عظيمة لعبت أدوارا تاريخية رائعة جلبت لها التقديس والتفخيم حتى لقبت ب(إست ) ..وهو لقب يعني السيدة عند قدماء المصريين.. وعند البجا كذلك .
وحتى لو خالطت الأساطير والخرافات سيرتها ..فهي سيرة تدل على الوفاء والتضحية والتفاني في حب الأسرة والزوج والإبن ،وكذلك على عزيمة حديدية وشجاعة فائقة وإصرار لا يلين .
فهل تذكركم هذه السيدة بأحد ما ؟
ألا تذكركم بأمهاتكم وقريناتكم وأخواتكم وبناتكم السودانيات الرائعات ؟ ..اللواتي يقدمن كل يوم درسا في الشجاعة والصبر والتفاني والكفاح.. وفي الحفاظ على الإرث السوداني العريق والثر من أن يتلاشى وتذروه رياح النسيان ؟
ألسن هن المخضبات بالحناء مجدولات الضفائر الملتحفات بثياب وادي النيل المتعطرات بالخمرة والصندل.. من يحرسن ثقافتكم القديمة أمام غزو المتطرفون الكارهون للنساء المحتقرون لبوابات عبورهم إلى الدنيا ؟
فبغض النظر عن التأليه والعبادة ..فعزة صارت هي الوطن والوطن هو عزة . 
لا نعرف بالطبع متى إلتحم هذا اللقب بالوطن وصار يرمز له ..ولكن الأمر يستحق البحث حوله عبر حفر تاريخي ممنهج . وما كتبته هنا لا يعدو أن يكون فاتحة عصف ذهني مشجع لمزيد من البحث .
كما أن لي غرضا آخر ..ألا هو رغبتي وأمنيتي في أن يكون النشيد البارع ( عزة في هواك ) لخليل فرح هو النشيد القومي السوداني ..بدلا عن النشيد الحالي الركيك معنى ومبنى ولحنا ، والذي لا يصلح سوى أن يكون فقط جلالة من جلالات الجيش ، وهو في نظري يتقاصر عن تمثيل أمة عريقة ذات ثقافة وإرث يعدان من أقدم الثقافات ذات الموروثات المستمرة حتى اليوم رغم الغزو الثقافي الرهيب شرقا وغربا .
......
عزة هي عزتنا ، هي المرأة هي الأم الأفريقية التي أنجبت البشر فانطلقوا في كل بقاع الأرض ليعمروها كما أراد لهم الصانع..واستخلفهم فيها . ولذلك تعلقنا بها ليس صدفة .وولاءنا لها طبيعي و مغروس في جيناتنا ، ولذلك تفيض أعيننا وأعين بني عمومتنا الأحباش شجنا وطربا حينما نتغنى بنشيدها ..ليس تقديسا وإنما تبجيلا ..ففيها نقدس كل معاني الجمال والخير والعزة وإحترام الأرض والطبيعة .

ولذلك إنطلق نشيدها ليغزو الأرض فنا ولحنا ومعنى فتغنى به الروس والصينيون والأحباش والفرنسيون ..وأتوقع له مزيد من الإنتشار .فكل من يسمعه سيتعلق به ..فهو نشيد مؤهل للعالمية بما يحمله من معاني بسيطة جزلة وبلحنه الأوبرالي البارع .

،،،،،،،،
عزة في هواك ... عزة نحن الجبال
و للبخوض صفاك ... عزة نحن النبال
عزه مابنوم الليل محــــال
و بحسب النجوم فوق الرحال
خلقة الزاد كمل و أنا حالي حال
متين أعود أشوف ظبياتنا الكحال
عزه ما سليت وطن الجمــال
ولا إبتغيت بديل غير الكمــال

و قلبي لي سواك ما شفتو مال
خذيني باليمين وأنا راقد شمال
عزه ما نسيت جنــة بلال
و ملعب الشباب تحت الظلال
و نحن كالزهور فوق التلال
نتشابي للنجوم و أنا ضافر الهلال
عزة جسمي صار زي الخلال
و حظي في الركاب صابو الكلال
و قلبي لسه ما عرف الملال
أظنه ود قبيل و كريم الخلال
عزه ما إشتهيت نوم الحجال
و لا السوار بكى في يمينا جال
و عزه في الفريق لي ضيق مجال
قبيلة بت قبيل ملأ الكون رجال

عزة شفتي كيف نهض العيال
جددوا القديم تركوا الخيال
روحك أم سماح سري كالسيال
شجوا الفؤاد حيوا محسور الليال
عزه في الفؤاد سحرك حلال
و نار هواك شفى و تيهك دلال
و دمعي في هواك حلو كالزلال
تزيدى كل يوم عظمه إزداد جلال

عزه في حدا الخرطوم قبال
و عزه من جنان شمبات حبال
و عزه لي ربوع أم در جبال
و عزه في الفؤاد دوا يشفي الوبال

آمنة أحمد مختار
On 15 Jul 2017 hopenona7@gmail.com
http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-80110.htm

أهل الوسط..وثقافة كتاب طبقات ود ضيف الله


* ظاهرة الولاء الأعمى للشيخ أو الحكيم أو القائد ظاهرة قديمة قدم التاريخ .. خاصة في وادي النيل ، حيث كان ولا زال للعقيدة الدينية مكانة مميزة ، وحيث بدأ الملوك كقادة روحيون أولا ثم زمانيون* ، فجمعوا بين السلطتين : الدينية والدنيوية* .وحيث ساد الإعتقاد بأن الملك أو الكاهن أو الزعيم يستمدون سلطتهم من الإله مباشرة ، بل ساد الإعتقاد في النسب الإلهي للملوك والكهنة..وشاعت ظاهرة الإعتقاد في أنصاف الآلهة ..وفي كائنات مقدسة تؤدي مهاما إلهية عبر تحكمها في قوى الطبيعة ( نترو ) : كإيزا وأوزير وحور وست وغيرهم من رفاقهم النترو المقدسين .لكل هذا .. ومع هذه الخلفية العقائدية التي تميز بعض الرجال وتخصهم بالتقديس وتكاد ترفعهم إلى مصاف أنصاف الآلهة وتقدس سلالاتهم ، كان من الطبيعي أن تستمر هذه الثقافة وتنتقل من جيل إلى جيل ، متلونة في كل جيل ومصطبغة بثقافته المعاصرة..ومتأثرة في آن* بالخلفية الثقافية والإرث العقائدي والتراثي الذي صبغ المحيط من سكان وبيئة بأوتاد ثقافية راسخة تحدت الزمن وصنعت التراث السوداني المميز والمتنوع..والممتد على إمتداد وادي النيل العظيم .
ورغم إنحداري كسودانية من نفس الثقافة والفولكلور المتوارثان ، وإنحداري من فرع قبلي يدعي الإختلاط بالنسب النبوي أيضا ..في هجرة حديثة نسبيا وموثقة ، ألا إنني لاحظت الهوس والتعلق المبالغ فيه بسير الحكماء والشيوخ وإدعاء النسب الشريف في وسط السودان تحديدا ، وليس هذا فحسب ..بل تقديس وتنزيه بعض الرجال وإلباسهم حلل الحكمة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، والولع بروي قصص الخوارق عنهم .
وهذا الأمر متفش في أوساط المتعلمين كما هو متفش في أوساط الأقل حظا من التعليم ..!!
وقد يقول قائل محتجا بأن هذا الأمر منتشر في كل الوطن شماله وجنوبه وشرقه وغربه ، ولكن ..لاأعتقد بأن هذا صحيح ، فبعض الشواهد تدل على العكس . ودليلي هو عدد المؤلفات التي تتناول سيرة هؤلاء الرجال الحكماء و سلالاتهم التي لا يتفوق عليها عددا سوى المؤلفات عن الشيوخ المغاربة !* وهي على نفس النمط الذي كان يتناول فيه قصص الخوارق عن النترو و الكهنة والحكماء والكجور قديما .
ونموذج لها كتاب الطبقات وكتاب المسيد...على سبيل المثال لا الحصر .
وتتميز هذه الثقافة بملامح أكثر تركيزا في منطقة الوسط ،ويمكن رصدها في بعض الممارسات الآتية :
* التبعية المطلقة لرجال حكماء أو يفترض فيهم الحكمة أو العلم الديني والروحي ، ورفعهم إلى مرتبة التقديس والتنزيه عن إرتكاب الأخطاء البشرية ، بل وتبرير أخطائهم وهفواتهم والنظر إليها كحكمة خفية في كثير من الأحيان !
* طاعة تكاد تكون عمياء حتى في الأمور الشخصية كاختيار شريك الحياة والنسب وأسماء المواليد .ألخ
* الهوس بإدعاء القدرات الخارقة للنفس أو الأتباع ..إقتداء في ذلك بشيخ الجماعة أو الطريقة الذي ينسب لنفسه أو تنسب له قدرات خارقة للطبيعة.
* التعصب الأعمى والدفاع الأعمى عن الشيخ ضد منتقديه حتى الموضوعيون منهم .
* إيراث القداسة لسلالة الزعيم الروحي وإفتراض إنتقال الحكمة إليهم رغم أنها ليست من كسبهم ، والتبعية المطلقة للسلالة وإيراث هذ التبعية لأبناء التابعين ..الأمر الذي يصل إلى درجة التضحية* بالنفس والمال والممتلكات ..وأحيانا الأبناء .
* صنع كانتونات مذهبية* وعقائدية تتحكم في الأتباع وترسم مصائرهم وخياراتهم .
ورغم إتهامي لكتاب الطبقات تحديدا في ترويج وترسيخ هذه الثقافة ..إلا أنني أعي قدم وعراقة هذه الثقافة كما سبق وأسلفت ، لذلك ربما نجد العذر لمؤلفي هذه الأقاصيص والسير ..لأنهم يسيرون على نهج آبائهم من الموثقين لإرث الكهانة القديم في وادي النيل ..والذين يزعمو
أهل الوسط وثقافة طبقات ود ضيف الله****
********* ظاهرة الولاء الأعمى للشيخ أو الحكيم أو القائد ظاهرة قديمة قدم التاريخ .. خاصة في وادي النيل ، حيث كان ولا زال للعقيدة الدينية مكانة مميزة ، وحيث بدأ الملوك كقادة روحيون أولا ثم زمانيون* ، فجمعوا بين السلطتين : الدينية والدنيوية* .وحيث ساد الإعتقاد بأن الملك أو الكاهن أو الزعيم يستمدون سلطتهم من الإله مباشرة ، بل ساد الإعتقاد في النسب الإلهي للملوك والكهنة..وشاعت ظاهرة الإعتقاد في أنصاف الآلهة ..وفي كائنات مقدسة تؤدي مهاما إلهية عبر تحكمها في قوى الطبيعة ( نترو ) : كإيزا وأوزير وحور وست وغيرهم من رفاقهم النترو المقدسين .
لكل هذا .. ومع هذه الخلفية العقائدية التي تميز بعض الرجال وتخصهم بالتقديس وتكاد ترفعهم إلى مصاف أنصاف الآلهة وتقدس سلالاتهم ، كان من الطبيعي أن تستمر هذه الثقافة وتنتقل من جيل إلى جيل ، متلونة في كل جيل ومصطبغة بثقافته المعاصرة..ومتأثرة في آن* بالخلفية الثقافية والإرث العقائدي والتراثي الذي صبغ المحيط من سكان وبيئة بأوتاد ثقافية راسخة تحدت الزمن وصنعت التراث السوداني المميز والمتنوع..والممتد على إمتداد وادي النيل العظيم .
ورغم إنحداري كسودانية من نفس الثقافة والفولكلور المتوارثان ، وإنحداري من فرع قبلي يدعي الإختلاط بالنسب النبوي أيضا ، ألا إنني لاحظت الهوس والتعلق المبالغ فيه بسير الحكماء والشيوخ وإدعاء النسب الشريف في وسط السودان تحديدا ، وليس هذا فحسب ..بل تقديس وتنزيه بعض الرجال وإلباسهم حلل الحكمة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، والولع بروي قصص الخوارق عنهم .
وهذا الأمر متفش في أوساط المتعلمين كما هو متفش في أوساط الأقل حظا من التعليم ..!!
وقد يقول قائل محتجا بأن هذا الأمر منتشر في كل الوطن شماله وجنوبه وشرقه وغربه ، ولكن ..لاأعتقد بأن هذا صحيح ، فبعض الشواهد تدل على العكس . ودليلي هو عدد المؤلفات التي تتناول سيرة هؤلاء الرجال الحكماء و سلالاتهم التي لا يتفوق عليها عددا سوى المؤلفات عن الشيوخ المغاربة !* وهي على نفس النمط الذي كان يتناول فيه قصص الخوارق عن النترو و الكهنة والحكماء والكجور قديما .
ونموذج لها كتاب الطبقات وكتاب المسيد...على سبيل المثال لا الحصر .
وتتميز هذه الثقافة بملامح أكثر تركيزا في منطقة الوسط ،ويمكن رصدها في بعض الممارسات الآتية :
* التبعية المطلقة لرجال حكماء أو يفترض فيهم الحكمة أو العلم الديني والروحي ، ورفعهم إلى مرتبة التقديس والتنزيه عن إرتكاب الأخطاء البشرية ، بل وتبرير أخطائهم وهفواتهم والنظر إليها كحكمة خفية في كثير من الأحيان !
* طاعة تكاد تكون عمياء حتى في الأمور الشخصية كاختيار شريك الحياة والنسب وأسماء المواليد .ألخ
* الهوس بإدعاء القدرات الخارقة للنفس أو الأتباع ..إقتداء في ذلك بشيخ الجماعة أو الطريقة الذي ينسب لنفسه أو تنسب له قدرات خارقة للطبيعة.
* التعصب الأعمى والدفاع الأعمى عن الشيخ ضد منتقديه حتى الموضوعيون منهم .
* إيراث القداسة لسلالة الزعيم الروحي وإفتراض إنتقال الحكمة إليهم رغم أنها ليست من كسبهم ، والتبعية المطلقة للسلالة وإيراث هذ التبعية لأبناء التابعين ..الأمر الذي يصل إلى درجة التضحية* بالنفس والمال والممتلكات ..وأحيانا الأبناء .
* صنع كانتونات مذهبية* وعقائدية تتحكم في الأتباع وترسم مصائرهم وخياراتهم .
ورغم إتهامي لكتاب الطبقات تحديدا في ترويج وترسيخ هذه الثقافة ..إلا أنني أعي قدم وعراقة هذه الثقافة كما سبق وأسلفت ، لذلك ربما نجد العذر لمؤلفي هذه الأقاصيص والسير ..لأنهم يسيرون على نهج آبائهم من الموثقين لإرث الكهانة القديم في وادي النيل ، والذي يتمظهر في سريان الإعتقاد به عبر العصور ..رغم إختلاف العقائد وتغيرها .
رغم أن هذا الإرث ظل جاذب وجذابا ..بالنسبة لكل طموح مدع للحكمة والخوارق .


آمنة أحمد مختار
9 يوليو2017م



    السودانيون ، وموسى وقومه ، ومعطيات التاريخ

    صحيفة الراكوبة

    تزايدت في السنوات الأخيرة كتابات سودانية من بعض أقلام غير المتخصصين في علمي التاريخ والآثار ، تزعم أن سيدنا موسى عليه السلام من أصل سوداني ، وأن فرعون موسى (كذلك ) من أصل سوداني ، وأن أحداث قصة الخروج كلها حدثت ضمن حدود السودان الحالي ، بل أن البحر الذي عبر به قوم موسى هو نهر النيل ( ضمن حدود السودان الحالي) لا سواه !!
    وليس هذا فحسب ، بل تزعم هذه الأسطورة الحضرية المعاصرة أن معظم الأنبياء عليهم السلام ينحدرون من جذور سودانية لا غير !!

    وبما أن لكل شعب أساطيره الحضرية المعاصرة ، إلا أن هذه الأسطورة بالذات حساسة للغاية ، أولا : لأنها تخالف كل ماهو متفق عليه من تفاسير دينية وتاريخية ، ثانيا : لا تقوم على ساقين ..ولا تستند على مرجعيات تاريخية وآثارية وجغرافية ولغوية بتاااتا ... لا تستند على شئ سوى الأماني .
    وبالتالي تعرضنا هذه الأسطورة لسخرية القراء والمتابعين من الدول الأخرى ..كما حدث مؤخرا بعد أن تبناها وزير الإعلام السوداني نفسه !!

    لذا صار لزاما علينا كمتخصصي تاريخ أن نتتبع قصة سيدنا موسى وقومه ( بالذات) في المراجع والمصادر التاريخية المتوفرة بين أيدينا ..رغم ندرة ظهور ملامح هذه القصة فيها.
    ولكن هكذا اقتضت الضرورة ..أن نتتبع أقرب فرضيات ممكنة ومعقولة ولها سند تاريخي ..كي لا نكون صمتنا عن هذه الخرافات التي صارت تروج بغير أسانيد منطقية سوى أمنيات أصحابها ..وتسبب لنا حرجا إعلاميا بالغا !

    العبرانيون ، من هم ؟
    لقد حار المؤرخون والأثاريون غاية الحيرة في تحديد شخصية فرعون الخروج الذي ورد في قصة سيدنا موسى عليه السلام و التي وردت في الكتب المقدسة ( الكتاب المقدس -العهد القديم ، والقرآن بالطبع ) ، هذا عكس خصومه العبرانيون الذين تعددت المصادر التي تشير إليهم ..أو إلى مجموعات تشبههم جفرافية ومسمى . وطبعا كان البحث عبر المنهجية التاربخية التي تعتمد على الآثار والمراجع والمصادر ووسائل وأدوات البحث المعروفة ، فالبحث التاريخي علم منضبط وليس أمرا هينا ولينا أبدا كما يستسهله بعض الذين لا يمتلكون أدواته ومنهجيته ..ومع ذلك يتصدون له بثقة وغرور عجيبين !!

    فماهي المعطيات الآثاربة والتاريخية التي بين أيدينا .. وربما تكون لها علاقة بهذه القصة الدينية ؟
    * مصادر أولية :
    1- أول ذكر للعبيرو في الوثائق الكمتية (المصرية ) كان في عهد الفرعون أمنحتب الثاني من الأسرة الثامنة عشر ، يذكر في نص له إنتصاره على ملوك سوريا وأسره لمجموعات من السكان البدو من ضمنهم مئات من العبيرو أحضرهم معه إلى (كمت ) مصر القديمة .
    2- وثائق تل العمارنة ( آخت آتون ) التي تشير إلى الفوضى التي أحدثتها مجموعات العابيرو في بعض المدن الفلسطينية . وذلك في عهد أمنحتب الرابع / أخنآتون.
    3 - لوح النصر للفرعون مرنبتاح الذي أشار إلى أنه قطع نسل ( يسرائيل ) .
    4- نصوص أوغاريت الشامية التي تشير لمجموعات تسكن خارج المدن تسمى العابيرو .
    5- رسائل مدينة ماري على الفرات الأوسط ، والتي تشير لمجموعتين من العبرو أو العابيرو ، المجموعة الأولى تسمى (بنو يامينا) أي أبناء الجنوب في اللغات السامية ، والمجموعة الثانية( بنو سمأل) أي أبناء الشمال . وقد لاحظ الباحثون الشبه بين إسم المجموعة الأولى وإسم السبط الثاني عشر من أسباط بني إسرائيل المعروف بسبط (بن يامين) .
    6- وثائق بناء مدينة بي- رعمسيس المتبادلة بين الفرعون رعمسيس الثاني ورئيس العمال ، وتتناول مجموعة من العمال العييرو الذين أشارت لهم المراسلات بلفظ (عبر ).
    7 - وثائق معركة قادش التي تشير إلى نقمة رعمسيس الثاني من العبيرو واستعبادهم بعد عودته من المعركة لأسباب ربما تعود لأدوار لهم كادت تسبب هزيمته .
    ......

    من كل ما سبق من إشارات تاريخية واضحة تشير لوجود قوم يسمون بعبيرو وخابيرو وعبر وعبري في بعض المصادر الكمتية والكنعانية والعراقية من نقوش ونصوص وغيرها ، إضافة لإشارة لوح النصر لمرنبتاح لقوم يدعون يسرائيل أو يزرأين . وهذه المصادر الأولية حددت بما لا يدع مجالا للشك أن أصول هؤلاء القوم تنحدر من كنعان ( الشام ) .
    ويالتالي هم آسيويون وليسوا بكوشيين بطبيعة الحال ...حتى يثبت العكس !
    ......
    * من هو فرعون الخروج ؟
    ربما لم يحتار رجال الدين كثيرا في تحديد فرعون موسى ، فوجود مومياء رعمسيس الثاني بحالة جبدة ، إصافة إلى الزمن الطويل الذي حكم فيه ( 67 عاما ، وتوفي عن عمر يناهز التسعين ) ، إضافة إلى بعض الشائعات بكون التشريح أثبت أنه مات غريقا . كل هذه أسباب ساعدت رجال الدين من مسلمين ويهود على الجزم وبوثوقية غير علمية ..على كون أن رعمسبس الثاني هو فرعون الخروج ! كمان أن إبنه مرنبتاح ناله ما نال والده من إتهامات ..نسبة لكلامه القاسي عن قبيلة يسرائيل في لوحه الشهير .
    المهم ، أن الإتهامات حول هذا الأمر تحوم حول الأسرة التاسعة عشر الشهيرة بعهد الرعامسة العظماء .
    هذا رغم أن المؤرخين والآثاريين لم يقطعوا برأي في هذه المعضلة حتى اليوم ، وذلك نسبة لتوخيهم الدقة التاريخية وكون أن هنالك مناهج تحكمهم .
    وحقيقة لا بسعني هنا إلا أن أحذو حذوهم ، ولكن هذا لن يمنعني من طرح بضع المعطيات.. التي ربما تبدو كفرضيات تظل مجرد فرضيات حتى بتم إثباتها بالوسائل العلمية المعروفة ..بطبيعة الحال .
    أولا : رعمسيس الثاني وإنتقامه من العبيرو لأدوار خائنة لهم خلال معركة قادش ، وثم الإشارات التي تدل على تسخيره لهم في بناء مدينة بي َ- رعمسيس . ثانيا - لوح النصر لمرنبتاح ، الذي يبدو كلامه فيه عن يسرائيل وإشارته لقطع نسلهم كلاما إنتقاميا للغاية ، لذلك رجح بعض الباحثين أن مرنبتاح هو فرعون الخروج .
    ثالثا : الفترة المضطربة التي حدثت بعد وفاة مرنبتاح في عصر الرعامسة ، والتي ظهر فيها فراغ في الحكم واضطرابات وإستقلال بعض المناطق ، ثم ظهور شخص غامض إسمه آمون مس وصف بكونه مغتصب للعرش ، حكم مدة من الزمان ثم تبعته الملكة تاوسرت التي حكمت بمعاونة أحد رجال الدولة ذوي النفوذ ويسمى باي . وتذكر بعض المصادر أن زوجها الأول كان شقيقها سبتاح ، ثم توفي وخلفه سيتي الثاني .
    المهم عمت الفوضى كمت ( مصر القديمة) في تلك الفترة وقامت الملكة تاوسرت بمحاولة مسح نقوش بعض الفراعنة وتدمير توابيتهم ، الأمر الذي دفع بكهنة آمون إلى إخفاء كثير من توابيت الفراعنة .
    فمن هي تاوسرت الرعمسية ؟
    ومن هو آمون مس ؟
    ومن يكون باي وزير تاوسرت ؟
    وما سبب الفوضى العظيمة التي حدثت بعد وفاة مرنبتاح ؟
    أسئلة تستحق البحث حولها ، فربما يلوح ضوء آخر النفق ..يخرجنا من متاهة التوهمات واستسهال الرجم بالغيب الذي صار متفشيا في شأن أمر الرسل عليهم السلام .

    .......
    * المصادر طي المقال.
    آمنة أحمد مختار