أصاب د. الباقر العفيف.. ولكنه أخطأ من حيث أصاب
كتب د. الباقر العفيف مقالا جميلا بأسلوب متندر ورشيق كعادته..قبل فترة ، يمهد فيه لمعرفة الذات عبر الكشوفات العلمية الجينية الحديثة ، وما أتاحه لنا علم الجينات من تسهيل سبل معرفة الخارطة الجينية للإنسان وبالتالي الأصول التي ينحدر منها .
ويأتي هذا الأمر في سياق ظاهرة بدأت تنتشر حول الأوساط السودانية في الداخل والخارج من المهتمين بالتاريخ والأنثربولوجي.. وكذلك الهواة.
وهي ظاهرة محمودة بالطبع.. تصب في ذات المسعى الإنساني الخالد الذي يجعلنا نتحرق شغفا لمعرفة أصولنا التائهة القديمة ومعرفة أسلافنا الحقيقيين في خضم صراعات وجدل الهوية المحتدم ، وفي وقت تنبه فيه الكثيرون وعلموا حقيقة الظروف التاريخية التي صنعت فيها معظم أشجار النسب المزعومة .
ويأتي مقاله هذا كنوع من الرد على ما يبدو على الذين سخروا من مقاله القديم المعبر عن حالنا كأمة تائهة عن أصولها أصدق تعبير ، والمعنون ب(متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء) ..
وقد عنون مقاله القنبلة الجديد بعنوان جذاب متفكه وساخر :
( وأخيرا قطعت جُهَيَزَة قول كل خطيب )
( وداعا جَدِّي المنتحل (العبّاس) )
وأهم مافي هذا المقال القنبلة ، هو نتيجة الفحص الجيني للكاتب نفسه . فإلي جزء من المقال :
( فماذا كانت نتيجة فحص الحمض النووي؟ تهيأوا أيها القريشاب والشارباب لخبر جهيزة الخواجية، وأصيخوا السمع:
أنتم أحباش كوشيون نوبيون شرق أفريقيون ولستم عربا أيها الجعلتية..
فماذا أنتم قائلون؟
أتصوركم تقولون :" بالله قوم كده بلا جينوم بلا كلام فارغ! حرَّم عباسيين ولو كره "الكافرون" بأشجار الأنساب... عباسيون غصبا عنك وعن علوم الخواجات "الكضابة". أليس كذلك؟
الآن دعونا نفحص النتيجة:
إن نسبة جيناتي المنتمية لأفريقيا جنوب الصحراء هي ٩٧.٩ ٪ وهذه منها ٩٦.٨٪ تنتمي لشرق أفريقيا. وبالطبع نعرف أن هناك تداخل كبير بين ممالك النوبة القديمة مثل كوش ومروي وممالك الحبشة القديمة مثل بنط وأكسوم. فنحن في الحقيقة شعب واحد من الناحية الجينية ولكن تعددت لغاتنا وأدياننا. أما بقية الجينات المتبقية العالقة بشجرتي النوبية فتبلغ ٢.١٪. وهذه متوزعة بين ثمانية أقسام تفصيلها كالآتي:
جينات تنتمي لغرب أفريقيا نسبتها ٢.٪ (أي صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات تنتمي للمجموعات الأفريقية التي تعتمد على الصيد والجمع (زي الأقزام Pygmies) بنسبة ١.٪ (أي صفر فاصل واحد في المائة) . وجينات تنتمي للمجموعات الأفريقية التي تقطن جنوب الصحراء بشكل عام بنسبة ٧.٪ (صفر فاصل سبعة في المائة). وجينات تنتمي لغرب آسيا وشمال أفريقيا بنسبة ١.١٪ (واحد فاصل واحد في المائة). وجينات تنتمي لشمال أفريقيا والجزيرة العربية بنسبة ١.١٪ (واحد فاصل واحد في المائة). وجينات أوروبية محددة بنسبة ٢.٪ (صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات أوروبية بصفة عامة بنسبة ٢.٪ (صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات غير مصنفة بعد بنسبة ٨.٪ (صفر فاصل ثمانية في المائة).
ويبدو أن جهيزة الخواجية أرادت أن تعوضني عن خسارتي للعباس بإخباري أني والزعيم الخالد نيلسون مانديللا تحدرنا من جد واحد. وأن هذا الجد المشترك عاش قبل ١٤٠ ألف سنة. ربما كان هذا أبونا آدم.
وهكذا يضع العلم حدا للأسطورة. ويثبت فرضيتي التي تناوشتها السهام العروبية الصدئة. وكشأننا في سوء الظن بكل شيء حتى العلم، فَهِمَ البعض أن في قولي هذا تقليل من شأن العرب والعروبة، وإعلاء من شأن الأفارقة والأفريقانية، في حين أنني أؤمن إيمانا راسخا لا يتطرق إليه الشك أن الناس كلهم سواء لا يتفاضلون إلا بالقيمة والنبل والأخلاق. إنني أدعو فقط أن نكون "نِحْنَ يانا نِحْنَ.. ما غيرتنا ظروف ولا هدتنا محنة". أي أن نكون كما خلقنا الله، وألا نحاول تبديل خلقه، وانتحال خلق آخر غيرنا.. وألا نقيس أنفسنا بمعيار خارجنا، وأن نكون ممتنين كوننا أصلاء في هذه الأرض التي يباركها النيل سليل الفراديس.. وأن نستعيد آباءنا النوبيين رواد الحضارة الإنسانية.. وأن نبعثهم من مرقدهم الذي حجرنا عليهم فيه.. وأن ننفض عنهم تراب القرون، ونعتذر لهم ونكرمهم ونفخر بهم.. وأن نرعى إرثهم الذي أورثونا لأنه ميراثنا أبا عن جد. فإهمالنا للتاريخ والآثار النوبية والكنوز المعرفية التي تركوها لنا إنما هو ناتج عن نكراننا لأصولنا.. عن نكراننا لهم.. عن قتلنا الرمزي لهم، واتخاذنا أبا بديلا عنهم. ومن هذا الأب البديل نتجت كل آفاتنا وعقد نقصنا إزاء العرب وتذللنا لهم.. ).
إنتهى الاقتباس.
وقد أصاب طبعا في بحثه عن أصوله الجينية ليثبت لجميع السودانيين ولأفراد قبيلتيه خاصة.. أوهام أشجار النسب الموضوعة.. وخزعبلات إدعاء العروبة الخالصة لقبائل بعينها ، ولكي يثبت بالعلم خرافة النقاء العرقي في بلد متنوع الأعراق كالسودان.
والآن سأوضح أين أخطأ بدون قصد غالبا وبنية سليمة.
أخطأ في ثلاثة أمور أولهما :
+ البجا :
ففي غمرة فرحته بنسبة ال 96 في المائة من جيناته التي تنتمي لشرق أفريقيا.. نجده قفز قفزا بالزانة من النوبة على النيل ( وطوااااالي).. تجاه الحبشة وبلاد بونت !! .. ناسيا ولن أقول متجاهلا قومية أعرق وجودا على شرق النيل من النوبيين ومن أكسوم وبلاد بونت التي كانت في منطقة الصومال الحالية.
قومية البجا العريقة التي تمتد في ثلاث دول السودان وأريتريا ومصر وكذلك تمتد في الهضبة الحبشية نفسها .. تجاهلها الكاتب تماما كأنها غير موجودة!!
أو كأنها تنتمي للواق الواق ..رغم أدوارها التاريخية المذهلة في شمال وادي النيل وجنوبه على مر التاريخ .
نعم البجا.. الذين عادة يتجاهلهم السوادنيون عندما يتكلمون عن التاريخ. ولكن هذا خطأ المناهج التعليمية السودانية في الأساس وكذلك أجهزة الإعلام ، هاتين المؤسستين اللتين تطفحان جهلا بالتاريخ السوداني الحقيقي وتاريخ وادي النيل عموما.
فإسهام البجا في حضارة وادي النيل قد يفوق إسهام من ذكروا هنا من نوباي ونوباد وأحباش وصومال.
فلماذا يتجاهل تاريخهم نخبنا ؟! هل لأنهم يرونهم حفنة من البدو لا يمكن أن يكون لهم أي نوع من أنواع الاسهام الحضاري ؟!
راجعوا بعض الوثائق التاريخية التي تجدونها متاحة عبر محركات البحث ..تحت أسم المجاي Medjay ، المحاربون البجا القدماء في كمت ( مصر القديمة) وبعض ملوكهم الذين طردوا الهكسوس كالملك سقنن رع وولديه كاموس وأحمس.
وراجعوا كذلك حروب البجا البلميين ضد الرومان لاستعادة حق الحج الي معبد ربتهم إيزيس في جزيرة فيلة في مدينة ألفنتين ( أسوان الحالية) ، ولاستعادة أراضيهم في كمت (مصر) التي كانت تبلغ حتى طيبة/الأقصر ، وحتى اليوم بوسعكم زيارة مدافنهم فيها.
هذه الحروب التي كانت مستمرة وسجال لدرجة أجبر البجا الرومان على دفع جزية. فقد كانوا سادة النيل في تلك الفترة وتصدوا للرومان بكل قوة .
فلم يجد الرومان بدا من تحالفهم مع النوباد البرابرة الذين أحضروهم من الواحات الغربية ليكونوا فاصلا بين الرومان والبجا ( راجعوا نقش الملك سلكو النوبادي ) لتعرفوا متى دخل النوباد اراضي البجا في الشمال ، حيث كان ملوك البلميين البجا من آخر ما تبقى من ملامح مملكة مروي الكوشية.
وبالمناسبة كان آخر من نقش وكتب بالمروية هم الملوك البجا البلميين.
وقد حارب البجا كذلك الأكسوميين في عدة معارك كر وفر ، وفي النهاية هزم البجا مملكة أكسوم في القرن الثاني الهجري / القرن الثامن الميلادي، ثم حكم البجا الحبشة لفترة من الزمن وأنشأوا عاصمة لهم في منطقة سميت بقمدر (بجا مدر)، وتعني أرض البجا، لا تزال قائمة إلى اليوم..وسكانها يصرون أن إقليم بجا مدر لطالما كان إقليما بجاويا منذ الأزل.. وإلا لما ترك الأحباش هذا الإقليم الغني بالذهب والمعادن ويضم أخصب أراضي الهضبة وتنبع منه بحيرة تانا..لقوم مستعمرين.
كل هذا تجدونه بقليل من البحث في المراجع.
فلذلك شعب بهذا القدم وهذه المجاهدات العظيمة في حماية حضارات وادي النيل لا يمكن تخطيه أبدا.
فقد حارب البجا كل من غزا مصر ، ابتداءً من ( الهكسوس مرورا بالحثيين والفرس والبطالمة ثم الرومان والمسلمين )ثم ( الترك والانقليز والإيطاليين في السودان وشرق السودان ).
إلى درجة أن زنوبيا ملكة تدمر استنجدت بهم في حربها المجيدة ضد روما وفعلا هبوا لنجدتها وأضعفوا قوة الرومان في مصر رغم هزيمتهم.
كذلك تصديهم للمسلمين لمنعهم من سرقة الذهب من أرض المعدن في وادي العلاقي مع قائدهم الشهير أولباب الذي لقبه العرب بعلي بابا ، ورغم إعجابهم به فقد شوهوا قصته الحقيقية.
وحروبهم مع المسلمين هذه كانت سجالا ولم يخمد أوارها إلا باتفاقية مع زعيم البجة كنون بن عبد العزيز وكانت شبيهة باتفاقية البقط ولكن مختلفة في بند جلب الرقيق وبعض البنود الأخرى.
دماء كثيرة وأرواح لا تحصى بذلها البجا هذه الحروب التاريخية التي امتدت لآلاف السنين شمالا وشرقا ووسطا وهم يدافعون عن حضارات وادي النيل القديمة وعن السودان.
هذه الدماء إختلطت بدماء معظم السودانيين بالذات المجموعة الجعلية التي تأثرت بثقافة البجا كثيرا.
فكيف يتم تجاهل هذه الدماء قفزا من النوباي إلي الحبشة وبونت مباشرة..
كأن هذه المجموعة السودانية العريقة لم توجد أبدا ؟!!!
+ الخطأ الثاني :
فكلام الدكتور هنا غير دقيق إطلاقا.
فهو يقول أنهم أحباش كوشيون نوبيون وشرق أفريقيون وليسو عربا .
فهل الأحباش كوشيين ؟
وهل كانت كوش في الحبشة ؟
ثم لو افترضنا أن هناك كوشيين في الحبشة ( الكوشيون خارج السودان أطلق عليهم ذلك بسبب توصيف لغاتهم بالكوشية لكنهم لا ينتمون إلى مملكة أو حضارة كوش ) .
هل كل الأحباش كوشيين ؟ لا بالطبع فهم الحبشة أي( أبسينيا ) يتحدثون لغات من الفرع السامي لعائلة اللغة المعروفة بالافروآسيوية ، وحتي نجاشي عيزانا في نقشه حينما غزا كاسو ذكرها بالأسم..أي هم شعب مختلف عن الحبشة .
ثانيا ، أظنه أجرى فحصه الجيني في معامل ( 23andme ) وهؤلاء عملوا تفصيل أكتر حتي جنوب الصحراء تم استخدام تصنيفات ( سوداني ، صومالي ، أثيوبي ) فيه.. ولكن العفيف لم يذكر ماهي النسب المذكورة في فحصه .
وكيف يحكم علي شعب كالسوداني متنوع منذ تاريخه القديم والعريق بأنهم احباش ..حين أن وجود شعبنا أقدم من إسم (حبشت) نفسه الذي أطلق على الهضبة لاحقا.. والذي ورد في (نقش يمني لا يتجاوز القرن الثاني ق .م في حصن تل الغراب ).
فكيف ينسب شعب عاش في تاسيتي منذ عدة الآلاف من السنين الي الحبشة بهذه البساطة !!
َوحاليا كثير منا يعرفون معلومة أن السلالة J1 واحدة من أكتر المناطق التي توجد بها بكثافة في العالم هي المنطقة حول الخرطوم تقريبا.
فإذا ما مصدر الثقة والتأكد في كلام د. العفيف ؟ فهو لم يعرض أي إحصائية ليثبت بها إدعائه.. فهل فحصه الوحيد يكفي فقط لقول ذلك ؟
+ الخطأ الثالث :
وهو خطأ شائع كذلك في الإعلام السوداني والمناهج التعليمية القاصرة ، ألا وهو تسمية الحضارة الكوشية وملوكها بالنوبية والنوبيين .
فهذا خطأ تاريخي يقع فيه كثير من غير المتخصصين في التاريخ.
حاول بروف أسامة عبد الرحمن النور رحمه الله.. قبل وفاته تصحيح هذا الخطأ الذي يدرس في المدارس ويبث على أجهزة الإعلام ، حين دفعت الأمانة التاريخية والمنهجية العلمية التي لا يعلى عليها.. بروف أسامة (رغم نوبيته) أن يكتب ورقة بعنوان :
كوش - النوبة : إشكالية التسمية.
وذلك كي يفك الاشتباك بين المصطلحين .
ونشر ورقته البحثية هذه على موقعه أركماني.
تجدونها متاحة عبر محركات البحث.
وعموما.. أعتقد أن أزمة الهوية قديمة منذ قدم كوش وماقبلها.. وهى نتاج صراع عنصري ما بين مكونات شرق النيل وغرب النيل، تبدو حينا وتختفي حينا.. لكنها تظل فى الوجدان الجمعي السوداني..
وهذا الصراع الأزلي يتمظهر في عقدة الترحيب والتشبث بكل ماهو آت من الشرق أو الشمال.. والكراهية والخوف والنفور من كل ما يأتي من الغرب..
وأعتقد هو صراع قديم منذ زمن هجوم مجموعات النوباي على مملكة مروي..
وكذلك هجوم سلكو النوبادي على مملكة البلميين.
آمنة أحمد مختار أيرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق